لماذا تحترم بعضُ الأمم آثارها وتراثها القديم، بينما تنتقم أممٌ أخري من آثارها التاريخية، ويكون الانتقام في صورٍ شتي، بالسرقة والإتلاف والتدمير والبيع، فيزدهر بيع الآثار في سوق العالم السوداء، وتُنهبَ في فترات الأزمات لتباع أيضا بأسعارٍ زهيدة؟
ولماذا تقتني بلادٌ أخري آثار غيرها، وتشتريها بأغلي الأثمان، وتخزنها في متاحفها؟
سؤالان، تُحدد الإجابة عنهما مستوي الشعوب الثقافي والفكري، فالدول التي تُحافظ علي تراثها القديم، وتصون آثارها التاريخية، دولٌ حظيتْ بمستوي ثقافي رفيع،لأنها أدركتْ بأن التقدم والرقي ناتجٌ من نواتج التراكم المعرفي والثقافي، وما الآثار سوي إشارات وخطوات نحو التقدم المعرفي.
أما الدول التي لا تُحافظ علي تراثها، فهي دول تعيشُ اللحظة الراهنة فقط، هي دول الفرصة السانحة التي تسير وفق نظرية فليأتِ بعدي الطوفان وهذا النمط من الدول لا تسود فيه القوانين والأعراف.
فهي دول الفرصة السانحة، دولٌ تحكمها طُغمةٌ جاهلة، همها الوحيد جني الربح الشخصي، وتكديس الثروات في خزائنها، حتي ولو كانت الثروات ناتجة عن بيعِ تاريخ الأوطان، بآثارها وتاريخها وفنونها.
وما يزال الأمس القريب يشهد علي سرقة آثار العراق الجريح، حين نُهبتْ الآثار وبيعت الكنوز المخزونة في المتاحف بأبخس الأثمان.
وها هو رئيس تحرير أخبار الأدب الروائي جمال الغيطاني يدق ناقوس الخطر في آخر أعداد صحيفة أخبار الأدب 28/6/2008 في زاويته نقطة عبور حيث يشير إلي (محنة الآثار الإسلامية) التي تتعرض للسرقة بطرقٍ شتي، وهو يقول :
أصبحت الآثار مستباحة وهدفا للعصابات المنظمة.
وما أزال أذكر كيف عمد أحد المسؤولين في وطني إلي تسوية منطقة أثرية رومانية واسعة بالجرافات ليبني فوقها قصرا ومتنزها له ولعائلته ولأفراد حاشيته، خارقا القانون الذي يحفظ هذه المنطقة بالقوة.
ولا يعرف هذا المسؤول مقدار الجريمة التي ارتكبها في حق الوطن، إذ أن الآثار المدمرة في هذه المنطقة الأثرية لا تشير إلي أي أثرٍ عبري، بل هي آثار رومانية، واظب الإسرائيليون علي التنقيب فيها وزيارتها وحين فشلوا في العثور علي أي أثر عبري، تركوها لنا لنكمل هدمها وتدميرها، كي لا تؤشِّر علي العصر الروماني، وقد فعلنا.
ومن خلال جولاتي في كثير من دولنا العربية، وجدتُ بأن الأمر لا يختلف في معظمها، إذ أن كثيرا من المسؤولين العرب، ممن يجهلون أهمية التاريخ والتراث، يعمدون إلي جريمة في حق الوطن حين يُقررون طمس تاريخ الوطن كله، وإبقاء تراثهم وأسمائهم فقط، فلا أحد يعلو علي صورة الزعيم الأوحد والقائد المغوار باني الوطن، لا بجهودهم وأفعالهم طبعا، بل بتدمير آثار الغابرين !
إنها القصة القديمة الحديثة التي عرضها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة حين قال:
إن السبب في أن العرب إذا تغلبوا علي الأوطان أسرع إليها الفساد، فهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلق وجِبِلَّة، وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن رتبة الحكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه منافيه للعمران، والغاية عندهم الرحلة والتغلب، وهو مناقض للسكون الذي به العمران، فالحجر للأثافي، ينقلونه من المباني ويخربونها عليه، والخشب إنما حاجتهم إليه ليعمدوا به خيامهم، ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم، فيخربون السُقُف عليه. فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران المقدمة ص 178-179
وإكمالا لاستنتاجات ابن خلدون، فإن كاتبا آخر يقرر حدثا تاريخيا فريدا في عهد البطل التاريخي صلاح الدين الأيوبي، وهي من أبشع محاولات هدم الآثار:
هدم قاراقوش وكان وزيرا لصلاح الدين عددا من الأهرام الصغيرة، وبني بحجارتها قلعة القاهرة وأسوار عكا والقناطر الخيرية.
وقام الملك العزيز عثمان بن يوسف، وهو خليفة صلاح الدين، بمحاولة لهدم الأهرام كلها عام 1193 فبدأ بالهرم الصغير، فأوفد إليه النقابين والحجارين، وجماعة من عظماء دولته وأمراء مملكته، وأمرهم بهدمه ووكلهم بخرابه، فخيموا عندها، وحشروا عليها الرجال ووفروا عليهم النفقات، وأقاموا نحو ثمانية أشهر بخيلهم يهدمون كل يوم بعد بذل الجهد، واستفراغ الوسع الحجر والحجرين.
فقوم من فوق يدفعونه بالأسافين والأمخال، وقوم من أسفل يجذبونه بالقلوص والأشطان، فإذا سقط سمع له وجبة عظيمة من مسافة بعيدة، حتي ترتجف الجبال، وتزلزل الأرض، ويغوص في الرمل، فيتعبون تعبا آخر حتي يخرجونه، ثم يضربون فيه الأسافين، فيقطع، فتسحب كل قطعة علي العجل حتي تلقي في ذيل الجبل إلي مسافة قريبة.
فلما طال ثواؤهم، ونفدت نفقاتهم، وتضاعف نصبهم، ووهت عزايمهم، وخارت قواهم، كفوا محسورين مذمومين، لم ينالوا بغية، ولا بلغوا غاية، بل كانت غايتهم أن شوهوا الهرم سنة 593 هـ، ولو بُذل لهم ألف دينار ليردوا حجرا لعجزوا عن ذلك .
(من كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة بأرض مصر لعبد اللطيف البغدادي تحقيق احمد غسان سبانو دار قتيبة دمشق ،وقد أهدي الكاتبُ كتابه هذا للخليفة العباسي الناصر لدين الله لإطلاعه علي أحوال مصر، وهو الخليفة 34 في زمن صلاح الدين ص 144).
يصور هذا النص أيضا مقدار الألم الذي يعتصر قلب الكاتب عبد اللطيف البغدادي، وهو يستقصي الجريمة السابقة.
وقد استفاد الغُزاة من جهل العرب بقيمة بتراثهم، فكانوا عندما يدخلون بلدا يُفرغونه من كنوزه الأثرية، وينهبون الكتب والمجلدات ويحفظونها في متاحفهم وآثارهم كدلائل تشير إلي سلسلة التاريخ الطويلة التي يحتاجها أبناؤهم في دراستهم لحلقات التاريخ، بعد أن اقتدوا هم بالخليفة العربي المأمون الذي كان يشترط علي المهزومين أولا أن يسلموا المخطوطات التي لم تترجم إلي العربية لذلك فليس غريبا أن يصطحب القائد العسكريُ باحثين وعلماء ليجمعوا الآثار من البلاد المفتوحة، فقد استعان نابليون بعدد كبير من العلماء في حملته علي مصر وقد بلغ عدد العلماء والباحثين المرافقين للحملة أكثر من خمسمائة، وكانت الثمرة هي المؤلف الكبير (وصف مصر).
واكتشف العالم تشامبليون حجر رشيد عام 1822 ، علي الرغم من أن تشامبليون كان مسبوقا بعالم عربي اسمه أحمد بن وحشية الذي كتب كتابا اسمه (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام)، الذي نشره المستشرق النمسوي جورج هامر 1806 ، وفيه يكتشف رموز حجر رشيد قبل تشامبليون بأكثر من ألف عام، وقد أظهر تلك الحقيقة الباحث عكاشة الدالي المصري، ود. يحيي مير علم.
ليس غريبا حتي اليوم أن نري أن كثيرا من آثارنا وكتبنا ما تزال ضمن مقتنيات المتاحف في الدول الأخري، فإذا أراد الباحثُ أن يجد المخطوطات النادرة، فعليه أن يسافر إلي بريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول، ليجد المخطوطات العربية النادرة.
ولم يستفد العرب من ظاهرة الاستشراق، التي قام بها عددٌ من علماء الدول الأخري لغرض كشف أسرار عالمنا العربي، ولم يتمكن كثيرٌ من العلماء والدارسين العرب من ربط التطور في الدول المتقدمة باطِّلاعهم علي حضارتنا وتراثنا، وبقيت العلاقة بين المذهب الرومانسي في الأدب الغربي، وبين ترجمة قصة ألف ليلة وليلة غير واضحة، ولم يتمكن كثيرون من كشف أثر الخيال العربي علي الفكر العالمي بعد أن ترجم غالاند ألف ليلة وليلة، حتي أنني ما أزال أري أن ظاهرة (هاري بوتر) للكاتبة ج. ك. رولينغ وهي أشهر القصص في عالم اليوم والتي بلغ عدد المطبوع من هذه القصة الخيالية أكثر من مليار نسخة وهي مترجمة إلي أكثر من ستين لغة، تعود بجذورها إلي التأثُّر بألف ليلة وليلة، التي حاولت الدكتورة سهير القلماوي في رسالة الدكتوراة أن تضع لنا الخطوط الأولي لنكشف تلك التأثيرات.
غير أن العرب أبقوا علي تقليدهم العريق ، وهو تحويل التراث والآثار إلي أناشيد وأشعار وأغانٍ وعباءات تصلح للمناسبات والأعياد، ولم نتمكن من البناء علي قواعد آثارنا وتراثنا مجموعة من الأبنية الحديثة، تكون هي ركائز النهوض والتقدم والرقي.
كما أننا ما نزال مقصرين في حق تراثنا، فلم تقم المؤسسات العربية بوضع برامج عملية تنفيذية لاستعادة آثارنا المنهوبة في العالم، ولم تُسخِّر الدول العربية الميزانيات الملائمة لحفظ الآثار، وظلتْ آثارنا العربية عالات علي برامج اليونسكو، واكتفينا فقط ببناء المتاحف، وكأنها هي الغاية !
ولم نستفد من تجربة إسرائيل التي وظّفت التاريخ والتراث لتخدم أغراضها ومبادئها، فكان جنرالات الجيش هم الباحثين والمنقبين وعلماء الآثار، وأبرزهم الجنرال يغئال يادين، وموشي دايان اللذان أدخلا علم الآثار في الأمن القومي الإسرائيلي