ألقي الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، محاضرة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة مساء أمس، طرح خلالها سؤالا، قال إنه لا جواب عليه، وملخصه: كيف يمكن أن تكون مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط جميعها في حوزة العرب من المواقع إلي الموارد؟!، ثم تكون السياسة الأمريكية في معظمها انحيازا ضد العرب إلي درجة الجفاء والخصام.
جاءت المحاضرة في ختام دورة دراسية مكثفة حول «سياسة الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا في الشرق الأوسط»، نظمتها مؤسسة هيكل للصحافة العربية، واستفاد منها نحو ٦٠ شابا وشابة من طلائع العمل الصحفي العربي.
قال هيكل في محاضرته: إن هناك قاعدة بدهية ـ وعلمية في الوقت نفسه ـ تؤكد أن سياسات الدول ترتبط وتسير وراء مصالحها، لكن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، تمضي بإصرار علي طريق صدام مع هذه القاعدة البدهية والعلمية، بمعني أن مصالح الولايات المتحدة الكبري والحيوية في هذه المنطقة عند العرب يقينا، لكن هوي السياسة الأمريكية منجذب إلي ناحية إسرائيل دوما، وبغير تنبه أو توازن يعطي للتصرفات مصداقية المنطق والعقل، وذلك هو السؤال اللغز المعلق.
وأضاف: إن الانحياز الأمريكي الجارف نحو إسرائيل تسبب في إساءات بالغة إلي العلاقات العربية ـ الأمريكية، ومع ذلك فإن العرب في ارتباكهم ـ وبالتحديد بعض الكبار من ساستهم ـ لم يقصروا في لوم أنفسهم حتي ظهر بينهم من رأوا أن مسؤولية هذه الأحوال تقع بكاملها علي هذه الناحية، وليس علي الناحية الأخري مسؤولية شيء منها، وعليه فإنه ـ بدلا من الحيرة والارتباك ـ يكون الأجدي للعرب ترويض الذات وتهيئة المستقبل لعصر يظهر أمامهم زمانا أمريكيا له سلطانه، وله أحكامه.
وتابع: كذلك توقف العرب عرايا أمام المرايا للبحث عن العيوب والذنوب، وغاية أملهم صنع مثال لما يتصور بعضهم أن الولايات المتحدة تريد أن تراه فيهم، وهم يتقدمون إلي طلب قبولها ورضاها.
وقال هيكل: لقد بادر أصحاب ذلك الأمل بإصرار، فأزالوا ما ظنوه تشوها هنا أو ترهلا هناك، وأصلحوا بالحقن ما رأوه غائرا من حفر الزمان، وعالجوا بالجراحة أنوفا وشفاها حتي تصبح أكثر اتساقا، أو أكثر امتلاء، ورفعوا جفونا وشفطوا بطونا، وجربوا بالأدوية والمساحيق والعطور مما عرفوه ـ أو لم يعرفوه ـ لكي يؤثروا ويأسروا، وبالغ الشطار منهم حتي وصلوا إلي حد تغيير الأنساب وإنكار الأصول ليعرضوا أصولا مختلفة بعد أن هيأوا الأسباب لحاضر مغاير، ووصل بهم الأمر إلي حد إطلاق النار علي مراحل من التاريخ العربي، لكي تبين صورتهم المرسومة المستجدة دون خلفيات تشوش علي حسنها، وقد ظنوا أن ما صنعوه سوف يعجب العين الأمريكية ويخطف قلبها.
وأضاف: إن العرب أضافوا المال إلي الجمال حين رأوا وضع معظم استثماراتهم المادية والإنسانية، الإقليمية والعالمية تحت تصرف الولايات المتحدة ورهن أمرها وظلوا صابرين علي رأسمالهم المادي وأرصدتهم الإنسانية أكثر من ثلاثين سنة، لم يدققوا خلالها ولم يحاسبوا، وعندما جاءت لحظة حقيقية أمام الكنيست الإسرائيلي، وفي ذكري نكبة فلسطين يوم الرابع عشر من هذا الشهر مايو ٢٠٠٨، اكتشف العرب أن استثماراتهم السياسية والدولية ـ المعنوية والمادية ـ نفدت، وأن حسابهم لدي الولايات المتحدة مدين ـ مكشوف ـ وعليهم تسوية عجزه والسداد من الجسد الحي للأوطان إذا لزم، وإلا عرضوا أنفسهم للملاحقة وبعدها العقاب.
وتابع: قد ألاحظ ـ بداعي الإنصاف وفي شبه هامش علي الكلام ـ أننا بدأنا بعد طول الانتظار والصبر نسمع من داخل دوائر العلم والثقافة أصواتا هامسة في الولايات المتحدة تطرح تساؤلات عن موجبات هذا الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل، وتحذر من أضراره علي مستقبل المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، وعلي سلام هذه المنطقة، وحتي علي مستقبل إسرائيل ذاتها، إلا أن هذه الأصوات مازالت عند درجة التمتمة الخافتة، إذا قورنت بدوي ذلك الهدير الصاخب المؤيد لإسرائيل، حتي وإن بان لنا أن بعض الضوضاء ضجة جوفاء بالتصنع، فارغة من الصدق.
واختتم هيكل محاضرته قائلا: إن ذلك كله مما أطلت فيه ـ أو اختصرت ـ يضاعف من أهمية السؤال وخطره، وإذا كنا حتي هذه اللحظة لم نعثر علي رد مقنع علي سؤال ملح، فلعلنا في هذه القاعة الليلة نصادف مفتاحا يستطيع أن يدور في قفل تراكم عليه الصدأ، فضيفنا هذه الليلة واحد من أبرز أساتذة العلوم السياسية في جامعة «هارفارد» الدكتور ستيفن والت، وهو رجل صاحب علم وخبرة، وأهم من ذلك صاحب رؤية، وكذلك أترك له هذه المنصة، أملا أن نسمع صوت «تكة» ـ ولو خافتة ـ نعرف معها أن المفتاح يمكن أن يدور، وأن القفل الحديدي قابل لأن يلين، وأن تلك علامة علي أن السؤال له جواب.
بقي أن أسجل للأمانة أن هذا السؤال الحائر لدينا يستدعي قبله وليس بعده، سؤالا أهم من الانحياز أو الاستقامة الأمريكية، وذلك هو سؤال المستقبل العربي، وهو مما لا يحق لنا الطلب من صديق ـ مهما كان علمه ـ مفتاحا لقفله، لأن جوابه في عهدة ومسؤولية أصحاب المستقبل العربي ـ إرادتهم وقدرتهم ـ هم وليس غيرهم.